وُعّاظ السلاطين - على الوردي




مقتطفات من الكتاب 

أقدّم بين يدي القارئ العربي يحثا صريحا لا نفاق فيه حول طبيعة الإنسان، و هو بحث كنت قد أعددت بعض فصوله منذ مدة غير قصيرة لإلقائه من دار الاذاعة العراقية، فرفضه جلاوزة الإذاعة لسبب لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. والإذاعة كغيرها من المؤسسات الثقافية في هذا البلد، تجري على أسلوب في التفكير يحاكي أسلوب الواعظين. 
وقد ابتلينا في هذه البلد بطائفة من المفكرين الأفلاطونيين الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والثبور على الإنسان؛ لانحرافه عما يتخيلون من مثل عليا، دون أن يقفوا لحظة ليتبينوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل. فقد اعتاد هؤلاء المفكرون أن يعزوا علة ما نعاني من تفسخ اجتماعي إلى سوء أخلاقنا، وهم بذلك يعتبرون الإصلاح أمرا ميسورا، فبمجرد أن نصلح أخلاقنا ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح على زعمهم سعداء مرفهين ونعيد مجد الأجداد.
إنهم يحسبون النفس البشرية كالثوب الذي يُغسل بالماء والصابون فيزول عنه ما اعتراه من وسخ طارئ، و تراهم لذلك يهتفون بملء أفواههم: هذبوا أخلاقكم أيها الناس ونظفوا قلوبكم. فإذا وجدوا الناس لا يتأثرون بمنطقهم هذا انهالوا عليهم بوابل من الخطب الشعواء، وصبوا على رؤسهم الويل والثبور.
وإني لأعتقد أن هذا أسخف رأي وأخبثه من ناحية الإصلاح الاجتماعي، فنحن لو بقينا مئات السنين نفعل كما فعل أجدادنا من قبل، نصرخ بالناس ونهيب بهم أن يغيروا من طبائعهم لما وصلنا إلى نتيجة مجدية، ولعلنا بهذا نسيء إلى مجتمعنا من حيث لا ندري. إننا قد نشغل بهذا أنفسنا، ونوهمها بأننا سائرون في طريق الإصلاح، بينما نحن في الواقع واقفون في مكاننا أو راجعون الى الوراء.
إن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة، ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جُبل عليه ذلك الشيء من صفات أصلية. يقول :باكون": لكي تسيطر على الطبيعة يجب عليك أولا أن تدرسها، فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة المحيطة به.
إن القدماء كانوا يتصورون بأن الإنسان حر عاقل مختار، فهو في رأيهم يسير في الطريق الذي يختاره في ضوء المنطق والتفكير المجرد، ولهذا أكثروا من الوعظ اعتقادا منهم بأنهم يستطيعون بذلك تغيير سلوك الإنسان وتحسين أخلاقه. دأبوا على هذا مئات السنين، والناس اثناء ذلك منهمكون في أعمالهم التي اعتادوا عليها، لا يتأثرون بالموعظة إلا حين تلقى عليهم، فنراهم يتباكون في مجلس الوعظ، ثم يخرجون منه كما دخلوا فيه لئاما.
لقد جرى مفكرونا اليوم على أسلوب أسلافهم القدماء، لا فرق في ذلك بين من تثقف منهم ثقافة حديثة أو قديمة، كلهم تقريبا يحاولون أن يغيروا بالكلام طبيعة الإنسان.

رابط التحميل



شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق